الوصف
قلت: إنني اختزن حتى الاختناق وأُثير سخرية الزملاء القائلين: ما جدوى القصيدة… ما جدواها بعدما تنتهي الحرب، ولكنني أصرخ في لحظة لا يصل فيها الصراخ، ويبدو لي أن على اللغة ألّا تزج بنفسها في معركة أصوات غير متكافئة… ولكن ماذا تكتب؟ أشلاؤنا أسماؤنا… لا… لا مفرّ، سقط القناع عن القناع عن القناع، سقوط القناع، لا أخوة لك يا أخي، لا أصدقاء.
يا صدقي، لا قلاع، لا الماء عندك، لا الدواء ولا السماء ولا الدماء ولا الشراع، ولا الأمام ولا الوراء، حاصر حصارك… لا مفرّ، سقطت ذراعك فالتقطها، واضرب عدوك… لا مفر… وسقطت قربك، فالتقطني، واضرب عدوّك بي، فإن الآن حُرُّ… حُرُّ وحرُّ… قتلان أو جرحاك فيك فيك ذخيرة. فاضرب بها… اضرب عدوك… لا مفَرُّ… أشلاؤنا أسماؤنا… أسماؤنا أشلاؤنا… حاصر حصارك بالجنون… وبالجنون… وبالجنون… ذهب الذين تحبهم، ذهبوا فإما أن تكون، أو لا تكون… سقط القناع عن القناع… سقط القناع، ولا أحد… إلاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان، فاجعل كلّ متراس بلَدْ… لا… لا أحد… سقط القناع… عرب أطاعوا رُمهم عرب وباعوا روحهم… وضاعوا… سقط القناع… سقط القناع…
هو شخص أدار الطرف في ما حوله، شاعر موهوب رأى أنه لا مفر من الكتابة ومن النضال ومن الحياة، كأنه من الذين لا يستطيعون أن يمنحوا كلهم إلى شيء واحد، فيوزعون ذواتهم إلى شتات يقوم بطريقة متباعدة على طبق الحياة.
رؤيته في الحياة والكتابة والشعر والسياسة هي الجمع، واستبعاد تقنية الخيار الواحد أو الأوحد، وهي طريقة مقنعة تلك التي اعتنقها الشاعر محمود درويش، إذ لم يدر ظهره إلى وطنه، وقائل من أجله، ولم يتأخر في الدفاع عنه لحظة، وكذلك عشق الكتابة، ولم يهجرها…
هو شاعر محطات ومراحل، لكنها مراحل متصلة، ومن خلال مراقبته لعمله الشعري، يلاحظ في كل كتاب جديد تستطيع أن تجد بذرة كانت في كتاب سابق، أو كتب سابقة، لكن هذه البذرة تجد إمكان تفتحها، ورعايتها بطريقة جديدة تحوّلها نصّاً جديداً، يقول محمود درويش أن الشاعر يتوالد من تلقاء نفسه، من تجربته، ومن علاقته بالعالم، وعلاقته بالوجود، وبثقافته، ومن وعيه الشعري.
الشعر سرّ، والسر هو ما يجعل الشعر مستمراً، كما يقول، فليس هناك من اكتشاف شعري نهائي، وكل كتابة هي محاولة إجراء تعديل على مفهوم عام للشعر، وكل كتابة جديدة تملك إضافات ما، هي عبارة عن إعادة التعريف بالشعر، ومحمود درويش هو شاعر مكرّس في الحياة الثقافية ولدى القارئ، ولكنه في العلاقة بينه وبين نفسه ليس مكرساً، إنه يشعر بأنه لم يكرس نفسه… لم يكرس نفسه في معنى، أو أنه لم يطمئن إلى تجربته الشعرية، فهو ما زال يعتقد بأنها في حاجة إلى تجربة وتجريب جديدين، وإلى تطوير دائم، وإلى التمرد على ما يسميه الإنجاز الراهن، على الرغم من تقدير الآخرين للمكانة التي يحتلها في الذائقة العامة أو الوعي العام، وهو من الشعراء الذين يفتخرون بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر.
إنه يحب الموسيقى في الشعر، فهو مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي، ولا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلّا في الكتابة الشعرية الموزونة، ولكنها ليست موزونة بالمعنى التقليدي، ففي داخل الوزن تستطيع أن تشتقّ إيقاعات جديدة، وطريقة تنفس شعرية جديدة تُخرج الشعر من الرتابة، ومن القرقعة الخارجية…
هناك الكثير فيما يجب أن يقال عن محمود درويش… هو شاعر موسوعة، دواوينه كثيرة وأفقه واسع، عيناه تشعّ نوراً وثقة بالنفس، فعندما يقرأ قصائده أمام جمهوره ترى فيه ثقة الشاعر والمفكر والمناضل والسياسي والعالم المتمكن من موضوعاته، واسع المعرفة، علمّ بسائر المعارف والعلوم… باستطاعته القارئ التعرف على هذا الشاعر… حياته، وفاته، جوائزه، بعض مؤلفاته، والتعرف عليه من خلال مجموعة من مقالاته… كما ومن خلال ضمومة لبعض قصائده… وكلها قصائد يمكن للقارئ الذي لم يتمكن من قراءة كل دواوين الشاعر محمود درويش، الاطلاع عليها وإدراك تميز هذا الشاعر وإبداعاته عن قرب.