الوصف
يشكّل الشعر في كل مساراته سؤالاً في دوحة الخطاب الإبداعي، يتجاوز في حدود أقاليم الأسئلة الاعتيادية، والمتعارف عليها، حيث يبقى سؤالاً مستمداً بلا جواب، يستمد استمراريته من أسرار تكوينه الخلقي الذي يعتمد (الحدس) و(الكشف) و(الرؤيا) مساراتٍ حقيقية في تفسير الواقع والوجود، لا بل في تفسير العالم والكون. فالشعر في واقعه تجربة حدسية، لا يمكن الانفصال عنها، كما لا يمكن تجاوزها، لذلك فهو رؤيا الذات في البحث عن الحقيقة، وكشف احتمالي لتوقعات المستقبل، تشترك فيه كل مكونات الشعر، فتتعامل فيما بينها بهاجس شعري موحد لتصبح الكتابة الشعرية قدراً تكمن في سره (المباغتة)، ويحمل في طيه مسؤولية المفاجآت، إنه – الشعر – (الخَلْق) و(الابتكار)، حيث ينطلق من وعي الثقافة غير الجاهزة، ومسؤولية الآخر في (الاختراق) الذي يخلق (الدهشة) في (ذاكرة) الوجود، الذاكرة التي تتجاوز الزمن، فيصبح الشعر فيها نفياً للماضي، ونفياً للحاضر، تحت وطأة السؤال، بعيداً عن المباشرة، وبعيداً عن كل معرفة مسبقة. جدلية الشعر والواقع والعالم هي في حدّ ذاتها شعر، من حيث كينونة الشعر، وصيرورة العالم. فالشعر ليس إطاراً خارجياً، بل هو عالم يبحث عن عالم آخر مجهول، خارج عن المألوف، المرغوب فيه بعيد عن القبول قريب من الرفض، لا يجيء، سريع الومض، كثير الانفعال، صعب الكشف والمثول، يراقب ويترقب، ظاهره يناقض باطنه، وباطنه جوهر ظاهره، وحرارة إشعاعه، إنه يضفي على الأشياء حركيتها فيعيد خلقها من جديد. الشعر نسيج صوري (حدسي)، متمرد، غضبان، يخاطب الوعي من اللاوعي، ويحرق المرئي في اللامرئي، ومع ولوجه في (الأنا) ، يصهر أناته بالآخر، بانتظار ما سيكون. كل هذا وذاك شكل دافعاً لدى الباحث لدراسة مفهوم الشعر والتحقق من إشكاليته، فالتعرف على مفهومه، غوص على ماهيته، وكشف عن جوهره لأنه (الشعر) قبل كل شيء، وقبل (الكتابة). شعر قبل (القصيدة(، وقصيدة قبل (التشكيل)، وتحرر قبل التسلط، وتسلط بعد الوجود […] . وعليه فقد اقتصرت هذه الدراسة: مفهوم الشعر حصراً بالشاعرين: علي أحمد سعيد (أدونيس)، ونزار قباني، بصفتهما شاعرين وناقدين، ولسبب آخر في غاية الأهمية كونهما الشاعران الوحيدان اللذان يمتلكان (كمّاً) تنظيرياً ونقداً كبيراً، لا يفوق عليهما أحد من شعراء سوريا، إن لم يكن في العالم العربي. من هنا… فإن هذه الدراسة هي (موازنة) بين الشاعرين، ولكن ليست بمعنى الموازنة البحتة المعروفة بين الشعراء في النقد العربي القديم، وإن بدا بعض الشيء فيها؛ إذ إنها موازنة وصفية، نقدية لكل ما جاء به أدونيس ونزار من تنظيرات نقدية في مفهوم الشعر، وبيان آرائهما بطريقة (كشفية) و(تحليلية). لذا، فقد توزعت خطة البحث على تمهيد وثلاثة فصول: تناول الباحث في التمهيد، التعريف بمفهوم الشعر لدى الشاعرين، والتفريق بين تعريفه ومفهومه، والرؤى التي تمخضت عن مفهوم كل واحد منها، وموقفها من التعاريف القديمة للشعر، والرؤى الحديثة والمعاصرة. ودار الفصل الأول حول (المكونات الذهنية) من منطلق تأسيسها وتكوينها الذهني، وباعتبارها ركيزة أساسية في التشكيل الإيحائي للشعر بعيداً عن التعقلن والتمنطق والقياس. أما الفصل الثاني فقد تركز على (عناصر التوصيل) في مفهوم الشعر، بوصفها جزءاً داخلياً في تشكيل المفهوم، إضافة إلى فعلها الوظيفي الداخلي والخارجي. ودار الفصل الثالث حول (القصيدة) بوصفها الممثل الحقيقي والفني للشعر، ويمكن القول بأن دراسة مفهوم الشعر، أو ما أسماه البعض بنظرية الشعر، لم تكن جديدة في النقد الأدبي العربي، ولكن الجديد في هذا البحث أنه تناول شاعرين لم تُدرس نظريتهما الشعرية، دراسة مطولة، وجدية من قبل، كما أن الجديد في هذه الدراسة كما يشير الباحث أنها جمعت بينهما على منهج وصفي، وتحليلي، فأدونيس – وإن جاز التشبيه – يمثل بالنسبة إلى نزار، قطعة من الجمر تكاد تحرق من يلامسها. أما نزار، فإنه يمثل بالنسبة لأدونيس قطعة من الثلج، تكاد تصقع من يلامسها كذلك، لذا كانت مهمته، المحافظة على هاتين القطعتين، والوقوف بينهما حاجزاً، مظهراً أن كل قطعة تمتاز بخصائصها الشعرية الخاصة بها.