الوصف
وردت المقامة في مدلولها اللغوي في عصر ما قبل الإسلام دالة على معنى مجلس القبيلة وناديها، مستدلين بذلك ببيت زهير بن أبي سلمى: وفيهم مقامات حسانٌ وجوههم.. وأندية ينتابها القول والفعل. كما دلت على معنى الجماعة المجتمعين في مكان ما: كالنادي أو المجلس والشاهد على ذلك بيت لعبيد: ومقامة غلب الرقاب كأنهم… حين لدى باب الحصير قيام. ويبدو أن هذه الدلالات غلب عليها معانٍ ذات صيغة اصطلاحية. وفي العصر الأموي دلت على الموقف الذي يقف فيه من يروم الوعظ بين يدي الخليفة أو ما دونه من أصحاب المنزلة والأمر؛ حتى بلغ التطور في معناها فأصبحت تدل على المحاضرة التي تلقى في جمعٍ من الناس في موضوع ما. وهذا التحول يقودنا إلى أنها بدأت بدلالتها الاجتماعية ثم انتقلت إلى الدلالة الدينية، ثم استقرت بمفهومها الأدبي معلنة بدء مرحلة اصطلاحية فنية. وبالعودة إلى آراء الباحثين في تحديد مفهوم جنس المقامة، نجد أن الدكتور شوقي ضيف يمكن عدّه من الآراء الناضجة في تحديد مفهوم جنس المقامة، بوصفها نوع من القصص القصيرة الحافلة بالحركة التمثيلية. وقد أجمعت الآراء على أن بديع الزمان الهمذاني هو من ابتدع هذا الفن النثري ووضع عناصره ومحدداته الفنية التي انحاز فيه، ومن ثَم تبعه آخرون في مقاماتهم. لقد كانت الجهود التي سبقت بديع الزمان التي اتخذت من مصطلح المقامة المنسوب إلى المقام أو المجلس أو الأحاديث، كما جاء في أحاديث ابن دريد التي ذكرها القالي في أماليه: كانت تلك الجهود التي قام عليها هذا الفن العربي الأصيل الذي له مقومات النص الأدبي؛ فتوافرت له عناصر مكوناته من الراوي والبطل والحوار والفكرة والصنعة التي اهتمت باللغة ومفرداتها وتعددها وتنوعها، كما لها مسوغاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والمادية. ومن هنا نرى تفرد الأدب العربي قديماً عن سائر آداب الأمم الأخرى. مما يشكل ردّاً لمن يحاول سلب كا ما هو ذو ملامح عربية، وحاولة ربطها بآداب الأمم الأخرى. وبالعودة فإن مقامات ابن ماري التي ضمها هذا الكتاب بعددها البالغ [ستين مقامة] ظاهرة تستحق الانتباه إليها، مما وصل إلينا مما كتبه بديع الزمان الهمذاني إحدى وخمسون مقامة، ثم مقامات الحريري البالغة خمسون، أما ما وصل إلينا من الآخرين فلا يتجاوز ثلث هذا العدد، وهذا يعود لأسباب عديدة منها يتعلق بالكاتب والآخر يتعلق بالظروف التي أحاطت بالنصوص التراثية عبر العصور، مما جعل تنوع هذه المقامات، وتعدد موضوعاتها بين الكدية وموضوعات المدح والهجاء والتعلم من خلال أساليب الحوار الكلامي والهجاء، مع غلبة مهنة الكاتب – بوصفه طبيباً – في بعض المواقف، هنا وهناك، كما اختلفت من حيث طول المقامة وقصرها؟ وانحازت أنها جمعت أكبر عدد ممكن من الألفاظ، ووغرَرِ البيان والشوادر اللغوية، والمشترك اللفظي، والنادر من الكلام شعراً ونثراً، وتنوعت فيها نصوص أدبية رفيعة، ومواعظاً مبكية وساخرة؛ لذا تحتاج إلى التراكيب المتنوعة والمتفردة، مما يدفع الكاتب إلى ترصيعها بالحكم والنوادر، وهذا ما دفع ابن ماري إلى اللجوء إلى المعنى الرقيق بما يناسبه من لفظ رقيق يطابقه. وإلى هذا فإن صاحب هذه المقامات هو يحيى بن سعيد ماري البصري ويُكنّى بأبي العباس. كما روي أن اسمه [يحي بن يحي بن سعيد] المعروف بابن ماري المسيحي من أصل البصرة. ومن المتأخرين من ذكر بأنه [ابن عباس يحي بن سعيد ابن ماري النصراني البصري]. ولم تذكر المصادر سنة ولادته؛ إلّا أنها أشارت على مكان ولادته وهي البصرة. ويذكر ياقوت الحموي أن وفاته كانت بالبصر سنة (589هـ/1193م). هذا وتشير المصادر إلى أن ابن ماري قد مارس مهنة الطب، وهذه المهنة لا تتأتى لكل إنسان ما لم يلم بها درساً وبحثاً، مع العلم إن بعض الأطباء الذين اشتهروا في العصر العباسي هم من النصارى، حيث أتاح الانفتاح الذي مارسته الدولة العباسية إذا أخذت العقول نتغذى بشتى العلوم، لذا ليس غريباً أن ينشأ يحي بن سعيد نشأة علمية لما تمتعت به الحياة العلمية والأدبية من حرية في طلب العلم، ولا يمكن إغفال ما يمتلكه الكاتب من موهبة أدبية، حيث أشارت المصادر إلى براعته في الأدب، تلك البراعة الصادقة [كما وصفه القفطي]. ويبدو إن كان صاحب علم ومعرفة بالنحو واللغة، وهذا ما يمكن للقارئ لمسه في بعض مقاماته ومنها المقامة السابعة والخمسين؛ إذ جاء فيها بالكلمات التي فيها حرف الغاء وقد بلغت [271] كلمة فيها هذا الحرف، ومقامة أخرى تخلو من أحد حروف الهجاء، مما يؤكد سعة معجمه اللغوي ومعرفته ومهده التعليمي. والملفت في إحدى مقاماته توظيفه للموروث، ملوّناً ما ينتجه من أشكال المعرفة، ومنها توظيفه للحديث النبوي الشريف كما جاءت المقامة الأولى: [أما علمت أنك ومالك لأبيك] – صحيح ابن ماجه –